TOP

المفاضلة الصعبة بين “الكفاءة الاقتصادية” و”العدالة الاجتماعية”

المفاضلة الصعبة بين “الكفاءة الاقتصادية” و”العدالة الاجتماعية

فيما تستمر التكهنات حول إلغاء او تقنين الدعم الحكومي للسلع من عدمه، يأتي مشروع الموازنة (2011 إلى 2012) الذي قدمته الحكومة لمجلس النواب قبل نحو اسوعين، بكل ملحقاته والشروحات الاضافية ليضيف جرعة جديدة الى هذا الجدل، وسط مؤشرات متضاربة حول نية الحكومة وقرارها حيال الدعم. حتى الان، من الواضح ان قرارا قد تم اتخاذه لرفع اسعار وقود السيارات من النوع “الممتاز″ في سياق “اعادة توجيه الدعم”، وبقي التوقيت.

لكن اعادة توجيه الدعم ليست كلمة سحرية او نهائية، لان الخيارات لاعادة توجيه الدعم عديدة وكلها مثل اي وصفة اقتصادية لها تبعات من نوع ما، ومن المؤكد ان النقاش الدائر يستهدف الوصول الى افضل الصيغ بأقل قدر من الاضرار الجانبية. لماذا اصبح موضوع “الدعم”، يتصدر قائمة اولويات جدول الاعمال الوطني؟ لاهميته بالتأكيد وتبعاته على اكثر من صعيد، فهو ليس قرارا اقتصاديا بحتا بل قرارا سياسيا بدرجة كبيرة، وكل هذا النقاش مهما تشعب بكل ما فيه من وجهات نظر، هو في نهاية المطاف نقاش يتحرك بين معادلة تطرح نفسها دائما امام المخططين الاقتصاديين والقادة السياسيين وتدفعهم الى محاولة السير بتوازن بين طرفيها قدر الامكان: “الكفاءة الاقتصادية” و”العدالة الاجتماعية”.

كل التدابير الاقتصادية في العالم، ايا كان البلد الذي نتحدث عنه، تدور حول هذه المعادلة. فالانحياز لاحد طرفيها بهذا القدر او ذاك يعني خيارا سياسيا او ايديولوجيا حتى. فالانحياز الى الكفاءة الاقتصادية (سعيا للوصول الى مرحلة السوق الكامل) سيأتي على حساب العدالة الاجتماعية. هذا ما يراه عتاة المدارس الاقتصادية الرأسمالية، والانحياز المطلق للعدالة الاجتماعية، سيأتي حتما على حساب الكفاءة الاقتصادية، بما يذكرنا بكل تلك التجارب الشمولية التي سعت لتطبيق العدالة الاجتماعية، فانتهت الى فقدان الكفاءة الاقتصادية واخفاق العدالة الاجتماعية.
لماذا الان؟
في خلفية هذا النقاش، اقتصاد عالمي مازال يسعى للتعافي من اسوأ ازمة اقتصادية ضربته منذ الكساد الكبير في عشرينيات القرن الماضي، لكن الحذر مازال طاغياً على رؤى الاقتصاديين والمؤسسات الدولية المعنية، والاقتصادات العالمية لم تعرف بعد مسارا صاعدا نحو التعافي الكامل.

فعلى الرغم من توقعاته “باستمرار التقدم في مسيرة التعافي الاقتصادي العالمي” خلال العام 2011، فان صندوق النقد الدولي يشير الى ان هذا التقدم سوف “يسير بسرعتين مختلفتين”.

وبحسب كبير الاقتصاديين في الصندوق أوليفيه بلانشار، فان “الاقتصادات المتقدمة ستسجل نموا ضعيفا يكفي بالكاد لتخفيض البطالة”. (انظر: الاقتصاد العالمي في 2011، على الموقع الالكتروني للصندوق، 4 يناير 2011).
اما الاقتصادات الصاعدة فانها تواجه بحسب بلانشار “تحديات النجاح بما في ذلك درء امكانيات الدخول في نوبة من النشاط الاقتصادي المحموم والتعامل مع التدفقات الرأسمالية الداخلة”.

الهدف الاساسي للاقتصاد العالمي في عام 2011 سيكون هو “استعادة التوازن”، وهذا حسب الصندوق يتطلب “اجراءات هيكلية واجراء تعديلات في اسعار الصرف”.

واذا كان هذا الهدف، يفرض بعضا من السياسات المتحفظة في الانفاق لجميع دول العالم (رغم شيء من التفاؤل السائد حيال اسعار النفط)، فان الحذر والتحفظ الذي يطبع السياسات الاقتصادية العالمية، يمكن ان نجد له اثرا في مكان آخر في جدول اعمال دول مجلس التعاون الخليجي.

فعدا السياسات المتحفظة وتدابير التقشف، فان دول مجلس التعاون مطالبة في سعيها لتحقيق النمو، بانفاق مليارات الدولارات لمواجهة تحديات اخرى على رأسها هو الطلب المتزايد على الكهرباء والماء بسبب معدلات النمو السكاني خلال السنوات العشر الماضية. هكذا، سيتعين على دول المنطقة ان تنفق خلال العقد المقبل، اي منذ الان حتى 2019 حوالي 115 مليار دولار لرفع طاقة انتاج الكهرباء والماء. اما نصيب البحرين من هذا الرقم فهو 2,742 مليار دولار حسب الملف الذي اعدته مجلة “ميد” حول متطلبات رفع طاقة انتاج الكهرباء والماء في دول الخليج خلال السنوات العشر المقبلة. (راجع: رؤية 2020: تلبية الطلب على الكهرباء والماء في الخليج، مجلة “ميد”، عدد 31 ديسمبر2010 إلى 6 يناير2011).

هكذا، يتضافر تحفظ السياسات الاقتصادية والمالية مع متطلبات النمو ليخلق تحديا ردت عليه معظم الدول بتدابير اقتصادية ومالية تميل الى التقشف. وبالنسبة للحكومات، فان هذا لم يعد خيارا يمكن المفاضلة فيه، فتدابير التقشف من وجهة نظر المخططين الاقتصاديين الحكوميين هي سياسة ضرورية لاستعادة التوازن الاقتصادي على طريق التعافي.
لكن الدعم، ليس خيارا مطروحا لمحاسبي الحكومات وآلاتهم الحاسبة فقط، بل انه الامتحان الحقيقي للقدرة على تطبيق التوازن المطلوب في اي اقتصاد وفي اي بلد بين “الكفاءة الاقتصادية” ومتطلبات “العدالة الاجتماعية”.

قد تكون علامة مطمئنة ان الطرح المتداول الان لدينا هو اعادة توجيه الدعم لصالح الفئات المستحقة والضعيفة من المواطنين، هذا جيد، ويبدو ان هناك نوعا من “التوافق الضمني” حول هذا الخيار رغم بعض التصريحات الطنانة التي غدت احدى ادوات النقاش العام.

ليس هناك منطق واحد يحكم موضوع الدعم الحكومي للسلع، ولعل هذا عنصر التعقيد فيه والاهمية البالغة التي يمثلها. فمنطق محاسب الدولة يختلف بالتأكيد عن منطق المسؤول السياسي ومنطق المستثمر ومنطق الناشط الاهلي ومنطق المواطن العادي. فمن وجهة نظر محاسب الدولة، فان الدعم ليس سوى “كلفة”، لكن ما يهم سياسيي الدولة هو التبعات السياسية والاجتماعية. وفيما ينظر المستثمر الى الدعم من زاوية السوق، فان الناشط سيراه من زاوية اكثر شعبية قد تبدو ايضا شعبوية. اما المواطن فانه لن يراه حتما الا باعتباره عبئا.

هكذا، فان المزيد من النقاش سيفيد بالتأكيد، وخصوصا النقاش المعمق والموضوعي، الذي نأمل ان يدشنه ملفنا الذي نقدمه اليوم. في الملف افكار خلاقة لاقتصاديين بحرينيين استطلعنا رأيهم في هذا الموضوع الحيوي الذي يمسنا جميعا، تظهر ان بالامكان اعادة توجيه الدعم لكن بطريقة آمنة لا تضيف اعباء على المواطنين. اضافة الى هذا، يقدم ملفنا قراءة في الحساب الختامي لعام 2009 لكي توضح الارقام اسس النقاش حول الاداء الاقتصادي وما الذي يتعين عمله مستقبلا.

ملف الدعم الحكومي

من صحيفة أخبار الخليج

16 يناير 2010م

Read More

MusicPlaylist
Music Playlist at MixPod.com